فصل: تفسير الآية رقم (53):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الشعراوي



.تفسير الآية رقم (52):

{وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)}
أي لا عذر لهم في شيء من هذا الجحود؛ لأن الكتاب مفصل، وقد يقولون: إن الكتاب الطارئ علينا، وكذلك الرسول الذي جاء به. إذن فما موقفهم من الآيات الكونية الثابتة؟ لقد جحدوها أيضاً. {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ}.
و{فَصَّلْنَاهُ} أي أنه سبحانه لم ينزل كلاما مجملاً أو مبهماً، لا، بل فيه تفصيل العليم الحكيم، أنه فصل أحكامه ومعانيه ومواعظه وقصصه حتى جاء قيما غير ذي عوج، وسبحانه هو القادر أن ينزل المنهج المناسب لقياس ومقام كل إنسان.
إنه حينما يأتي إلينا من يستفتينا في أي أمر ويحاول أن يلوي في الكلام لنأتي له بفتوى تبرر له ما يفعله، فنحن نقول له: ليس لدينا فتوى مفصلة؛ لأن الفتاوي التي عندنا كلها جاهزة، ولك أن تدخل بمسألتك في أي فتوى. {... فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 52].
وهناك أناس سمعوا القرآن ورأوا الآيات واهتدوا، فلماذا اهتدى هؤلاء وضل هؤلاء؟ لقد آمن من صدق بالوجود الأعلى كما قلنا في سورة البقرة: {ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
إذن فقد آمن بالقرآن من اهتدى إلى الحق، ومنهم من أوضح الحق عنهم: أنهم حين يستمعون القرآن تفيض أعينهم من الدمع. وأيضاً هناك من لا يلمس الإيمان قلوبهم حين يستمعون إلى القرآن. {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ آنِفاً...} [محمد: 16].
وهؤلاء هم الذين غلظت قلوبهم فلم يتخللها أو يدخلها ويخالطها نور القرآن، لذلك تجد الحق يرد عيلهم بقوله سبحانه: {... أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ} [محمد: 16].
ويقول سبحانه: {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى...} [فصلت: 44].
سبق أن ضربنا المثل بأن الفعل في بعض الحالات واحد، لكن القابل للفعل مختلف، لذلك تكون النتيجة مختلفة. وعلى سبيل المثال: إذا كنت في الشتاء، وخرجت ووجدت الجو بارداً، وشعرت أن أطراف أصابعك تكاد تتجمد من البرد، فتضم فبضتك معاً وتنفخ فيهما، وقد تفعل ذلك بلا إرادة من كل تدفئ يديك. وكذلك حين يأتي لك كوب من الشاي الساخن جداً، وتحب أن تشرب منه، فأنت تنفخ فيه لتأتي له بالبرودة. والنفخة من فمك واحدة؛ تأتي بحرارة ليديك، وتأتي بالبرودة لكوب الشاي، وهكذا فالفعل واحد لكن القابل مختلف. وكذلك القرآن فمن كان عنده استعداد للإيمان فهو يهتدي به، ومن لا يملك الاستعداد فقلبه غلف عن الإيمان.
وموقف هؤلاء العاجزين عن استقبال الرحمة غير طبيعي، وماذا ينتظرون بعد هذا الكفر، وبعد الافتئات وبعد الاستكبار وبعد التأبي وبعد اتخاذ الدين لهواً ولعباً، ما ينتظرون؟
ها هو ذا الحق سبحانه يوضح لهم العاقبة: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ...}.

.تفسير الآية رقم (53):

{هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)}
وما معنى التأويل؟.. التأويل هو ما يؤول إليه الشيء، هو العاقبة التي يعدها الحق، فالرحمة والجنة لمن آمن، والنار لمن كفر، والحق هو من يقول ويملك قوله لأن الكون كله بيده.
وهنا يقول سبحانه وتعالى: {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ}.
أي هل ينتظرون إلا لمرجع الذي يؤول إليه عملهم؟ إن مرجعهم الأخير هو العذاب بعد الحساب يوم يأتي تأويل وغاية وعاقبة ما عملوا.
وحين يأتي يوم القيامة ويتضح الحق ويظهر صدق ما جاء به الرسول من الوعد والوعيد ماذا سيكون قولهم؟.. سيقولون ما أورده سبحانه على ألسنتهم: {يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق}.
أي أنهم سيعلنون التصديق حين لا ينفع هذا التصديق؛ لأنهم لن يكونوا في دار التكليف، سيقرون بالإِيمان لحظة لا ينفعهم ذلك. {يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ...} [الأعراف: 53].
هم إذن يقرون بأن الرسل حملت المنهج الحق ويتساءلون عن الشفيع. ونعلم أن الشفيع لابد أن يكون محبوباً عند من يشفع عنده، ونحن في الدنيا نجد من يبحث لنفسه عمن يشفع له عند صاحب جاه يكون أثيرا وعزيزا لديه، أو يكون له كلمة وفضل عليه فلا يرد عليه كلمته. فمن يأتي يوم القيامة بالشفاعة لهؤلاء؟.. لا أحد، وسنجدهم يتخذون الشفعاء من الذين اتخذوهم أنداداً لله. وسيعلن هؤلاء أيضاً الكراهية لهم، ولو مكنهم الله من الشفاعة ما أعطوها للكافرين المشركين؛ ففي الدنيا كان هؤلاء مؤتمرين بأمر البشر وضلالاتهم. أما يوم الحساب فلا أحد خاضع لإِرادة أحد، حتى الجوارح لا تخضع لإِرادة صاحبها، بل هي خاضعة للحق الأعلى. وفي الآخرة لا مرادات لأحد.
وقد ضربنا من قبل المثل وقلنا: هب أن سرية في جيش ما وعليها قائد صغير برتبة ضابط، ومفروض في جنود السرية أن ينفذوا كلامه، ثم راحوا لموقعة وأعطاهم الضابط الصغير أوامر خاطئة بما له من فرض إرادة عليهم فنفذوا ما أمروا به. ولحظة أن يعودوا ويحاسبهم القائد الأعلى فسيقولون: لقد فعلنا ما أمرنا به الضابط المكلف بقيادتنا، وكذلك ستأتي الجوارح في الآخرة: تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم وألسنتهم وجلودهم.
إذن فالأبعاض سترفع شكواها إلى الله يوم ألا يكون لأحد من ملك سواه، ويومئذ سيقول المكذبون الصدق الذي لن ينفعهم. {قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق...} [الأعراف: 53].
وسوف يبحثون عن شفاعة، لكنهم لن يجدوا، بل إن أول من يسخر من الذين عبدوا غير الله هم المعبودون أنفسهم.
ولذلك نجد قوله الحق سبحانه: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء: 98].
وما ذنب المعبود؟.. إن الأصنام لا ذنب لها، بل كل منها يريد أن يشفي نفسه بأن يكون أداة تعذيب لمن أعطوه غير حقه.
ولذلك نجد أن الأحجار التي عُبدت تقول: عبدونا ونحن أعبد لله من القائمين بالأسحار؛ لأن القائم في الأسحار من الأغيار قد يختار أمراً غير هذا، ولكنا كنا مقهورين على الطاعة، وقد اتخذوا صمتنا علينا دليلاً.
إن الأحجار تعلن أنها لم تكن تملك قدرة رفض أن يعبدها أحد أو أن تعبده عنها وتعلن له غباءه.
والشاعر يقول:
قد تجنوا جهلا كما قد تجنوا ** على ابن مريم والحواري

للمغالي جزاؤه والمغالي ** فيه تنجيه رحمة الغفار

وهكذا يأتيهم الحق واضحاً يوم القيامة.
إنهم سيطلبون العودة إلى الدنيا، وهذا من الخيبة؛ لأن مثل هذا الإِقرار ليس من الإِيمان، فالإِيمان يكون بالغيب لا في المشهد. وحتى ولو عادوا، فلن يؤمنوا!.
والحق هو القائل: {وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ...} [الأنعام: 28].
وكأنهم نسوا لحظة إقرارهم أنهم من الأغيار، وأتى فيهم القول الفصل من الله. {... قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ} [الأعراف: 53].
لقد جاء لهم الخسران بعد أن غاب عنهم ما كانوا يفترون على الله في الدنيا، إنهم رفضوا عبادته- سبحانه- وعبدوا غيره أصناماً صارت وقوداً للنار التي سيصلونها.
ويقول الحق بعد ذلك: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ...}.

.تفسير الآية رقم (54):

{إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)}
هنا ربوبية، وهنا ألوهية: {رَبَّكُمُ الله} ولا أحد يختلف في مسألة الربوبية لأن الحق يقول على ألسنة الكافرين والمشركين: {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله...} [الزمر: 38] وكذلك إن سألتهم من خلقهم؟ سيقولون: الله، ولم يدّع أحد نفسه مسألة الربوبية، لأن الربوبية جاءت بنفع لهم، لكن الألوهية دخلت بمنهج هو: (افعل ولا تفعل)؛ لأن التكليف من الإله الرب، والتكليف نعمة منه وهو لمصلحتكم أنتم، فلا شيء في التكليف يعود على الله. وفعلكم الحسن أو السيء لن يعطي لله صفة لم تكن له؛ لأن صفات الكمال أوجدكم. وإن كنتم أنتم في شك في هذه الربوبية فربكم هو الله- ولله المثل الأعلى- منزه عن التشبيه، كأن تقول الأم للولد: قال لك أبوك لا تسهر خارج المنزل ليلاً، فيتأبى الولد. وتنبه الأم ولدها: إن أباك هو الذي يأتي لك بالأكل والشرب، والملابس ويعطيك مصروف اليد.. إلخ.
وقد ضربت هذا المثل لأشرح كيف أن المكلف هو الرازق ولا أحد سواه يرزق، لذلك كان يجب أن تقبل تكاليفه لأن سبق لك بالفضل بأن أعطى لك وسخر لك الدنيا.
ومن قبل فصل الحق سبحانه خلق الإنسان، ويفصل لنا هنا خلق السماء والأرض لأن ظرف وجود الإنسان هو السماء والأرض، وكل الخيرات تأتي له من السماء ومن الأرض، وإذا كان الله قد علمنا كيف خلقنا، فهو هنا يعلمنا كيف خلق السموات والأرض، وخلق الإنسان وخلق السموات والأرض مسألتان ينشغل بهما العلم الحديث، فمن العلماء من قال: إن الأرض انفصلت عن الشمس، ومنهم من افترض نظرياً أن الإنسان أصله قرد، ولهؤلاء نقول: هذا حكم منكم لا يقبل؛ لأنكم لم تشهدوا الخلق، ولذلك فعليكم أن تسمعوا ممن خلق الخلق ليقول لكم كيف خلق الخلق.
هو سبحانه يقول: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} [الأعراف: 54].
والآية تتعرض للخلق الأول وهو السموات والأرض- كما أوضحت- وهو الظرف الوجودي للإنسان الخليفة وطرأ الإنسان على هذا الكون بكل ما فيه من قوى ونواميس، فكأن الله أعد الكون للخليفة قبل أن يُخلَق الخليفة ليجيء الخليفة فيجد كوناً مسخراً له؛ ولا يستطيع أي كائن منه أن يخرج عن مراد الله في شيء {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ}.
ومعنى (الخلق) أي أوجد شيئاً كان معدوماً وبرأه على غير مثال سبقه. فربنا سبحانه قدر كل شيء بنظام غير مسبوق، هذا هو معنى الخلق، وكلمة (الخلق) مادتها الفاعلة هي: خالق، وسبحانه وتعالى يجمعها مع أنه الخالق الوحيد فيقول: {... فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين} [المؤمنون: 14].
إذن فهناك الخالق الأعلى وهو الله، ولكنه سبحانه أيضاً أشرك خالقاً غيره معه فقال جل وعلا: {فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين}. كيف؟؛ لأن الخلق إيجاد شيء معدوم، والذي صنع الميكروفون يقال خلقه، والذي صنع الكوب يقال خلقه، والذي صنع المصباح يقال خلقه، لأنه كان شيئاً معدوماً بذاته، فأوجده. لكن الفارق أن الخالق من البشر يوجد معدوماً من موجود ولا يأتي بمادة جديدة؛ فمن أخذ المواد الموجودة في الكون وصمم منها المصباح وصهر الرمل وفرغ الهواء داخل الزجاج يقال له: خلق المصباح وأوجد معدوماً من موجود.
لكن الخالق هو خير الخالقين لأنه يخلق من عدم ولم يحرم خلقه حين يوجدون شيئا معدوماً من أن يوصف الواحد منهم بأنه خالق، وسبحانه حين خلق خلق من لا شيء، وأيضاً فإنكم حين تخلقون أي صنعة تظل جامدة على هيئة صناعتها، فمن صنع الكوب من الرمل المصهور يظل الكوب هكذا، ولا نستطيع- كما سبق أن قلت قديماً- أن نأتي بكوب ذكر، وكوب أنثى، ونضعهما معاً في مكان ونقول لهما: أنجبا لنا أكواباً صغيرة.
لكن ما يخلقه ربنا يعطي له سر الحياة ويجعله بالقانون ينتج غيره وينمو ويكبر. إذن فهو أحسن الخالقين.
والله سبحانه وتعالى يعطينا خبر خلقه السموات والأرض. وأوضح سبحانه أن السموات سبع وقد جاءت مجموعة. أما الأرض فجاء بها مفردة. لكنه جل وعلا قال في آية أخرى: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ...} [الطلاق: 12].
فكما خلق سبع سموات خلق سبع أراضين، ولماذا جاء بالسماء بالجمع وترك لفظ الأرض مفرداً؟.. لماذا لم يقل: سبع أراضين؟؛ لأن كلمة (أراضين) ثقيلة على اللسان فتركها لثقلها وأتى بالسموات مجموعة لخفتها ويسر نطقها.
والسماء هي كل ما علاك فأظلك، هذا معنى السماء في اللغة. لكن هل السماء التي يريدها الله هي كل ما علاك؟.. إن النجم هو ما علاك؛ وقد يقال: إن الشمس علتك، والقمر علانا جميعاً. ونلفت الانتباه هنا ونقول للناس الذين أحبوا أن يجعلوا السموات هي الكواكب إنها ليست دائما ما علانا؛ فالشمس تعلو وقتا وتنخفض وقتاً آخر. وكذلك القمر.
إذن فالوصف منحسر عن الشمس أو القمر بعض الوقت، ولا يصح أن يوصف أي منهما بأنه سماء دائما. وشيء آخر وهو أنهم حينما قالوا على الكواكب التي كانت معروفة بأنها كواكب سبعة وقالوا: إن هذه السماء، إنهم بقولهم هذا قد وقعوا في خطأ. وأوضح الحق لنا بالعلم أن للشمس توابع أخرى. فمرة رأى العلماء ثمانية توابع، ومرة تسعة، وأخرى عشرة توابع، وهكذا انهدمت فكرة أن التوابع هي السماء، وبقيت السماء هي ما فوق هذا كله، والحق هو القائل: {إِنَّا زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِزِينَةٍ الكواكب} [الصافات: 6].
هذه- إذن- زينة للسماء الدنيا، والسماء التي يقصدها ربنا ليست هي التي يقولون عليها، بل السماء خلق آخر لا يمكن لأحد أن يصل إليه، وكان الجن قديماً يقعدون منها مقاعد للسمع {فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً}. وحدث هذا بعد بعثته صلى الله عليه وسلم والحق هو من قال لنا ذلك. ولم يوضح الحق لنا حقيقة هذه السماء ونظامها، أي أن ربنا يريد لعقولنا أن تفهم هذا القدر فحسب، وسبحانه خالق السماء التي فوقنا، وهو جل وعلا خالق أراضين. وأين هي هذه الأراضين؟.. أهي أراضين مبعثرة؟
ولقد أثبت العلم أن كل مجرّة من المجرّات فيها مليون مجموعة شمسية، وكل مجموعة شمسية فيها أرض، إذن فهناك أراضٍ عديدة، ونلحظ أن الحق سبحانه حين يتكلم عن الأرض فكل مخاطب بالأرض التي هو فيها، ولذلك قال بعض العلماء: إن في هذا العالم العالي توجد أراضٍ، وكل أرض أرسل لهم الحق رسولاً.
والحق هو القائل: {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَآبَّةٍ وَهُوَ على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ.} [الشورى: 29].
ويعطينا العلم كل يوم مزيداً من الاكتشافات. وهكذا تكون السماء هي كل ما علاك والأرض كل ما أقلك. ومادامت سبع سموات والسماء الأولى فراغ كبير وفضاء، وتأتي بعدها السماء الثانية تُظل السماء الأولى، وكل سماء فيها أرض وفيها سماء أخرى. ونحن غير مكلفين بهذا، نحن مكلفون بأن نعلم أن الأرض التي نحن عليها مخلوقة لله.
والحق يقول: {خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ...} [الأعراف: 54].
وقوله: {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} هو ظرف للخلق. واليوم نعرف أنه المدة من طلوع الشمس إلى الغروب ثم إلى الشروق ومدته أربع وعشرون ساعة. لكن لابد لنا أن نعرف بعضاً من اصطلاحات الحق القرآنية.
فهو يقول سبحانه وتعالى: {... سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ} [سبأ: 18].
أي هناك ليل وهناك يوم، إذن فاليوم عند الحق غير اليوم عندنا؛ لأننا نطلق على المدة الزمنية من طلوع الشمس إلى غروبها وشروقها من جديد. هكذا يكون اليوم في العرف الفلكي: من شروق إلى شروق، أو من غروب إلى غروب، وقول الحق: {سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ}.
يعني أنه سبحانه قد جعل الليل قسماً والنهار قسماً، وهل كان هناك من عرف اليوم إلا بعد أن وجدت الشمس؟.. وإذا كانت الشمس هي التي تحدد اليوم فكيف عرف اليوم قبلها وخصوصاً أن السماء والأرض حينما خلقتا لم تكن هناك شمس أو كواكب؟.. وعلينا هنا أن نعرف أن هذا هو تقديره سبحانه وقد خاطبنا به بعد أن عرفنا مدة اليوم. ألم تقرأ قول الله سبحانه: {... وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً} [مريم: 62].
وليس في الآخرة بكرة ولا عشى، إذن سبحانه قد قدر البكرة وقدر العشي، وكذلك {فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} وتلك هي الآيات المحكمات في القرآن بالنسبة لزمن الخلق؛ ستة أيام، ولكن آية التفصيل للخلق، جاءت في ظاهر الأمر أنها ثمانية أيام.
اقرأ معي: {قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ...} [فصلت: 9-12].
والظاهر من آية التفصيل أنها ثمانية أيام، أما آيات الإِجمال فكلها تقول: إنها أيام، ومن النقطة دخل المستشرقون، وادعوا زوراً أن القرآن فيه اختلاف، وحالوا أن يجعلوها ضجة عالية. ونقول: إنه سبحانه خلق الأرض وما فيها في أربعة أيام كاملة بلا زيادة ولا نقصان، فالمراد أن ذلك حصل وتم في تتمة أربعة أيام ويضم إليها خلق السموات في يومين فيكون عدد الأيام التي تم فيها خلق السموات والأرض ستة أيام أو نحمل المفصل على المجمل، فحين يقول الحق: {إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ...} [الأعراف: 54].
فهل خلق الله يحتاج إلى علاج حتى يتطلب الزمن الممتد؟.. إن ربنا يخلق ب (كن)، ونحن البشر على حسب قدرتنا لنخلق شيئاً، وكل عملية نقوم بها تأخذ زمناً، لكن من يخلق بكلمة (كن) فالأمر بالنسبة له هين جداً سبحانه وتعالى لكن لماذا جاء الخلق في ستة أيام؟
نعلم أن هناك فرقاً بين ميلاد الشيء وبين تهيئته للميلاد. وكنا قد ضربنا المثل سابقا- ولله المثل الأعلى- بصانع الزبادي، الذي يأتي بأكواب اللبن الدافئ، ثم يضع في كل منها جزءا من خميرة الزبادي، ويضع تلك الأكواب في الجو المناسب. فهل يؤدي هذا الرجل عملاً لمدة أثنتي عشرة ساعة في كل كوب، وهي المدة اللازمة لتخمر الكوب؟.. طبعاً لا، فقد اكتفى بأن في كل كوب عناصر التخمر لتتفاعل بذاتها إلى أن تنضج.
ولنظر إلى خلق الجنين من تزاوج بويضة وحيوان منوي. ويأخذ الأمر تسعة شهور وسبحانه جل جلاله لا يعمل في خلق الجنين تسعة شهور، لكنه يترك الأمر ليأخذ مراحل تفاعلاته.
إذن فخلق الله السموات والأرض في ستة أيام لا يعني أن الستة أيام كلها كانت مشغولة بالخلق، بل قال سبحانه: (كن) وبعد ذلك ترك مكونات السموات والأرض لتأخذ قدرها ومراحلها؛ لأن ميلادها سيكون بعد ستة أيام. وفي القرآن آية من الآيات أعطتنا لمحة عن هذه المسألة، فقال سبحانه: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ} [ق: 38].
أي خلق سبحانه السموات والأرض دون تعب؛ لأنه لا يعالج مسألة الخلق، بل إنما يحدث ذلك بأمر (كن) فكانت السموات والأرض. والآية التي بعدها فوراً تقول: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ}
وكأن قوله سبحانه هنا جاء لتسلية الرسول صلى الله عليه وسلم موضحاً له: إنهم يكذبونك وقد ترغب في أن نأخذهم أخذ عزيز مقتدر. لكن الحق جعل لكل مسألة كتاباً، فهو قد خلق السموات والأرض في ستة أيام. ونحن في حياتنا نقول لمن يتعجل أمراً: يا سيدي إن ربنا خلق السماء والأرض في ستة أيام. فلا تتعجل الأمور.
إذن كان ربنا هو القادر على أن ينجز خلق السماء والأرض في لحظة، لكنه أمر (بكن) وترك المواد تتفاعل لستة أيام. ولماذا لا نقول: جاء بكل ذلك ليعلمنا التأني، وألا نتعجل الأشياء؟ لأنه وهو القادر على إبراز السموات والأرض في لحظة، خلقها في ستة أيام، لذلك قال سبحانه: {فاصبر على مَا يَقُولُونَ...} [ق: 39].
أي لا ترهق نفسك لأنه سبحانه خلق السماء والأرض في ستة أيام، وسيأتي لهؤلاء الجاحدين يومهم الذي يؤاخذون فيه بسوء أعمالهم وسوف يأتي حتماً.
وهناك من يتساءل: كيف خلق الكون بما فيه من الرواسي والكائنات؟.. ونقول: إن الإنجاز الذي أخبر به سبحانه مرة واحدة، وانفعلت الكائنات للقدرة مرة واحدة، وتعددت استدامة انفعالات السامع بقدرة الله، في كل جزيئة من جزئيات الفعل، وأخذ الأمر ستة أيام. واستقر الأمر بعد ذلك واستتب، وسبحانه يقول: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش...} [الأعراف: 54].
ولابد أن نعرف العرش ما هو. وسبحانه يقول في ملكة سبأ: {... وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ} [النمل: 23].
فالعرش إذن هو سرير الملك؛ لأن الملك لا يجلس على العرش إلا بعد إن تستقر الأمور.
فكأن قوله: {استوى عَلَى العرش} كناية عن تمام الأمور؛ وخلقها وانتهت المسألة. لكن العلماء حين جاءوا في {استوى}، اختلفوا في فهمها؛ لأن العرش لو كان كرسياً يجلس عليه الله، لكان في ذلك تحييز لله ووضعه وضمه في جرم ما. وسبحانه منزه عن أن يحيزه شيء. ولذلك أخذ العلماء يتلمسون معاني لكلمة {استوى} منهم من قال: إن معناها هو قصد إليها بخلقه واختراعه، ومنهم من قال: المقصود بها أنه استعلى وارتفع أمره، ومنهم من قال: (صعد) أمره إلى السماء واستند إلى قوله الحق: {ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ...} [فصلت: 11].
وكلها معانٍ متقاربة. وجماعة من العلماء أرادوا أن يخرجوا من التشبيهات؛ فقالوا: المقصود ب (استوى) أنه استوى على الوجود، ولذلك رأوا أن وجود العرش والجلوس عليه هو سمة لاستقرار الملك. وحتى لا ندخل في متاهات التشبيهات، أو متاهات التعطيل نقول: علينا أن نأخذ كل شيء منسوب إلى الله في إطار: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11].
فحين يقول سبحانه: {يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ...} [الفتح: 10].
ونحن نفهم أن لليد مدلولاً، والقرآن لغة عربية يخاطبنا بها سبحانه، فالقول أن لله يداً فهذا دليل على قدرته. واستخدام الحق كلمة اليد هنا كناية عن القدرة. والإِنسان عليه أن يأخذ كل شيء منسوب إلى الله مما يوجد مثله في البشر، في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، فنقول: سبحانه له يد ليست كيد البشر، وله وجود لكنه ليس كوجود البشر، وله عين ليست كعيون البشر. وله وجه ليس كوجه أحد من البشر. ولذلك حينما سئل سيدنا الإِمام مالك عن هذه المسألة قال لمن سأله: (الاستواء معلوم والكيف مجهول والسؤال عنه بدعة) وأراك رجل سَوْء! أخرجوه. نعم السؤال عنه بدعة لأنه يدخل بنا في متاهة التشبيه ومتاهة التعطيل، وهل سأل أحد من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم عن معنى الاستواء؟.. لا؛ لأنهم فهموا المعنى، ولم يعلق شيء من معناها في أذهانهم حتى يسألوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم. إنهم فهموها بفطرتهم التي فطرهم الله عليها في إطار ما يليق بجلال الله وكماله.
وإن قال قائل: أرسول الله كان يعلم المعنى أم لا يعلم؟.. إن كان يعلم لأخبرنا بها، وإن لم يخبرنا فقد أراد أن يكتمها. وإن لم يكن قد علم الأمر.. فهل تطلب لنفسك أن نعلم ما لم يعلمه صلى الله عليه وسلم؟
أو أنّه صلى الله عليه وسلم ترك لكل واحد أن يفهم ما يريد ولكن في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} والذين يمنعون التأويل يقولون: إياك أن تؤول اليد بالقدرة؛ لأنه إن قال: إن له يداً، فقل ليست كأيدينا في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}؛ لأنه سبحانه له حياة، وأنت لك حياة، أحياته كحياتك؟. لا، فلماذا إذن تجعل يده مثل يدك؟.. إذن لابد أن ندخل على كل صفة لله فننفي عنها التعطيل وننفي عنها التشبيه. ثم إن من يمنعون التأويل نقول لكل منهم: أنت ستضطر أخيراً إلى أن تؤول؛ لأن الحق يقول: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ...} [القصص: 88].
ومادام {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} فكل ما يطلق عليه شيء يهلك، ويبقى وجهه سبحانه فقط، فلو أنت قلت الوجه هو هذا الوجه، فكأن يده تهلك ورجله تهلك وصدره يهلك، وحاشا لله أن يحدث ذلك. وتكون قد دخلت في متاهة ما لها من آخر. لذلك نقول: لنأخذ النص وندخله في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. وآية الاستواء على العرش هذه، مذكورة في سور كثيرة، وهي تحديداً في (سبعة مواضع)؛ في سورة الأعراف التي نحن بصددها، وسورة يونس، وسورة الرعد، وسورة طه، وسورة الفرقان، وسورة السجدة، وسورة الحديد.
وهنا يقول الحق بعد الحديث عن الاستواء على العرش: {يُغْشِي الليل النهار}.
الله سبحانه قد خلق السماء والأرض للخليفة في الأرض وهيأ له فيها أصول الحياة الضرورية ودلّه على ما يحتاج إليه، فماذا سيفعل هذا الخليفة؟.
لابد أن يقوم بكل مقومات الحياة، وإذا ما عمل فسيبذل جهداً، والجهد يقتضي راحة. ومن يشتغل ساعة لابد أن يرتاح ساعة. وإن اشتغل ساعتين ولم يسترح ساعة غُلب على نفسه.
ونحن نرى في الالة التي تعمل ثلاث ورديات يومياً أي التي تعمل لمدة الأربع والعشرين ساعة دون توقف أنها تُستهلك أكثر من الآلة التي تعمل ورديتين، والآلة التي تعمل وردية واحدة لمدة ثماني ساعات يطول عمرها أكثر. وكل إنسان يحتاج إلى الراحة. فشاء الحق سبحانه وتعالى أن يبين لنا أن الليل والنهار متعاقبان من أجل هذا الهدف: {وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ...} [القصص: 73].
أي لتسكنوا في الليل، وتبتغوا الفضل في النهار، فإن كنت لم تسترح بالليل فلن تقدر أن تعمل بالنهار، فمن ضروريات حركة الخلافة في الأرض أن يوجد وقت للراحة ووقت للعمل. لذلك أوضح سبحانه لنا: أنا خلقت الليل والنهار، وجعلت الليل سكناً إلى للراحة والبعد عن الحركة، والحق يقول هنا: {يُغْشِي الليل النهار...} [الأعراف: 54].
ويكون المعنى هنا أن النهار يغشي الليل، ولذلك تحدثنا من قبل عن تتابع الليل والنهار لنستنبط منها الدليل على أن الأرض كرة. {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62].
والليل يخلف النهار، والنهار يخلف الليل، وفي مصر نكون في نهار مثلا، ويكون هذا الوقت في بلد آخر ليلاً، وإذا سلسلتها إلى أول ليل وإلى أول نهار، وأيهما الذي كان خلفه للثاني؟ فلن تجد؛ لأن كلا الاثنين خلقا معاً. ولو كانت الأرض مخلوقة على هيئة التسطيح وكانت الشمس قد خلقت مواجهة لسطح الأرض لكان النهار قد خلق أولاً ثم يعقبه الليل، ولو كانت الشمس قد خلقت غير مواجهة للسطح كان الليل سيأتي أولاً ثم تطلع الشمس على السطح ليوجد النهار. والحق سبحانه أراد من الليل والنهار أن يكون كلاهما خلفة للآخرة، ولا يمكن أن يكون ذلك إلا إذا كان الله سبحانه خلق الليل والنهار دفعة واحدة. كان لابد أن تكون الأرض كرة؛ ليغشى النهار الجزء المواجه للشمس، وليغشى الليل الجزء غير المواجه للشمس، وحين تدور الأرض يأتي النهار خلفة لليل، ويكون الليل خلفه للنهار. {وَهُوَ الذي جَعَلَ الليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً} [الفرقان: 62].
{يُغْشِي الليل النهار} ويغشى النهار الليل وحذفت للاعتماد على الآيات السابقة التي منها قوله الحق سبحانه: {وَلاَ الليل سَابِقُ النهار...} [يس: 40].
أي أن الليل لا يسبق النهار وكذلك النهار لا يسبق الليل، وهذا دليل على أنهما خُلقاً دفعة واحدة.
والحق يقول هنا: {والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر...}
فلا أحد من هذه الكائنات له اختيار أن يعمل أو لا يعمل، بل كلها مسخرة، ولذلك تجد النواميس الكونية التي لا دخل للإنسان فيها ولاختياراته دخل في أمورها تسير بنظام دقيق، ففي الوقت الفلاني ستأتي الأرض بين الشمس والقمر، وفي الوقت الفلاني سيقع القمر بين الأرض والشمس، وسيحدث للشمس خسوف، وكل أمر من هذا له حساب دقيق. {يُغْشِي الليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر...} [الأعراف: 54].
والخلق إيجاد الأشياء من عدم، فبعد ان خلق الله الكون لم يترك شؤون الكون لأحد، بل سبحانه له الأمر بعد ذلك. وقيوميته؛ لأنه لم يزاول سلطانه في ملكه ساعة الخلق ثم ترك النواميس تعمل، لا، فبأمره يُعطل النواميس أحياناً، ولذلك شاء الحق أن تكون معجزات الأنبياء لتعطيل النواميس؛ لنفهم أن الكون لا يسير بالطبع أو بالعلة. لذلك يقول: {أَلاَ لَهُ الخلق والأمر}.
وإذا نظرت إلى كلمة (الأمر) تجد الحق يقول: {قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ...} [آل عمران: 154].
والمقصود هو الأمر الكوني، أما الأمور الاختيارية فلله فيها أمر يتمثل في المنهج، وأنت لك فيها أمر إما أن تطيع وإما أن تعصي، وأنت حر. {... أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين} [الأعراف: 54].
وحين يقول سبحانه: {تَبَارَكَ الله} وقال من قبل: {أَحْسَنُ الخالقين}، فكل لفظ له معنى، ففي خلقه من البشر مواهب تَخْلق ولكن من موجود وأوضحنا ذلك.
وفي قول آخر يصف الحق نفسه: {وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين} [الأنعام: 62].
والناس تتعلم الحساب وخلقوا آلات حاسبة، وهي آلات تتم (برمجتها) وإعدادها وتهيئتها للجمع والطرح والضرب والقسمة، وكل حدث من الحساب يأخذ مدة. لكن الحق يحسب لكل البشر دفعة واحدة. لذلك فهو أسرع الحاسبين؛ لأنه ليس هناك حساب واحد، فأنت لك حساب مع الله، والآخر له حساب مع الله، والحساب مع الله متعدد بتعدد أفراد المحاسبين، وحساب الحق للخلق لا يحتاج إلى علاج، بل ينطبق عليها ما ينطبق على الرزق، ولذلك حينما سئل عليّ كرم الله وجهه:
- أيحاسب الله خلقه في وقت واحد؟
قال: وما العجب في ذلك ألم يرزقهم في وقت واحد؟
وانظر إلى القرآن تجد الحق {أَسْرَعُ الحاسبين} و{أَحْسَنُ الخالقين}، و{أَرْحَمُ الراحمين} و{خَيْرُ الوارثين}. وهذه هي الألفاظ التي وردت، ولله فيها مع خلقه صفة، لكن صفة الله دائما في إطار {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}. {تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين}.
و{تَبَارَكَ الله} أي أنه- تعالى- تنزّه؛ لأن هناك فرقاً بين القدرة المطلقة- وهي قدرة الله- والانفعال للقدرة المطلقة بالإِرادة وب (كن) وهذا هو الانفعال والانقياد وللإِرادة والأمر.
ويقول الحق سبحانه وتعالى بعد ذلك: {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً...}.